كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه:
أن بما في حيزها سادة مسدّ مفعولي: {اعْلَمُوا} باعتبار ما قيد به من الحال، وهو قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} الخ، فإنه حال من الضمير المجرور في: {فِيكُمْ} المستتر فيه. والمعنى: أنه فيكم كائنًا على حالة يجب تغييرها، أو كائنين على حالة كذلك، وهي أنكم تودّون أن يتبعكم في كثير من الحوادث، ولو فعل ذلك لوقعتم في الجهل والهلاك. وفيه إيذان بأن بعضهم زين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقع في بني المصطلق، وأنه لم يطع رأيهم هذا. ويجوز أن يكون: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} مستأنفًا. إلا أن الزمخشري منع هذا الاحتمال، قال: لأدائه إلى تنافر النظم، لأنه لو اعتبر: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} الخ كلامًا برأسه، لم يأخذ الكلام بحجز بعض، لأنه لا فائدة حينئذ في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} إذا قطع عما بعده. وأجيب بجواز أن يقصد به التنبيه على جلالة محله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لجهلهم بمكانه مفرّطون فيما يجب له من التعظيم، وفي أن شأنهم أن يتبعوه، ولا يتبعوا آراءهم، حتى كأنهم جاهلون بأنه بين أظهرهم، فوضح جواز الاستئناف، والوقف على: {رَسُولَ اللَّهِ}.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: فما أجدركم أن تطيعوا رسول الله وتأتمّوا به، فيقيكم الله بذلك من العنت فيما لو استتبعتم رأي رسول الله لرأيكم: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} أي: بالله: {وَالْفُسُوقَ} يعني الكذب: {وَالْعِصْيَانَ} أي: مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضييع ما أمر الله به.: {أُوْلَئِكَ} أي: المصوفون بمحبة الإيمان، وتزينه في قلوبهم، كراهتهم المعاصي: {هُمُ الرَّاشِدُونَ} أي: السالكون طريق الحق.
{فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
{فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أي: إحسانًا منه، ونعمة أنعمها عليكم. قال القاشاني: كان فضلًا بعنايته بهم في الأزل، المقتضية للهداية الروحانية الاستعدادية المستتبعة لهذه الكمالات في الأبد. ونعمة بتوفيقه إياهم للعمل بمقتضى تلك الهداية الأصلية، وإعانته بإفاضة الكمالات المناسبة لاستعداداتهم، حتى اكتسبوا ملكة العصمة الموجبة لكراهة المعصية. وهو تعليل لـ: حبّب، وكرّه، وما بينهما اعتراض، أو نصب بفعل مضمر، أي: جرى ذلك فضلًا، أو يبتغون فضلًا {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: ذو علم بالمحسن، والمسيء، وحكمة في تدبير خلقه، وتصريفهم فيما شاء من قضائه.
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} أي: تقاتلوا: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} قال ابن جرير: أي: بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه، لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.
{فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} أي: فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله، له وعليه، وتعدت ما جعل الله عدلًا بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} أي: تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي: ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه: {فَإِن فَاءتْ} أي: رجعت الباغية، بعد قتالكم إياهم، إلى الرضا بحكم الله في كتابه: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} أي: بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلًا بين خلقه: {وَأَقْسِطُوا} أي: اعدلوا في كل ما تأتون وتذرون {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: فيجازيهم أحسن الجزاء.
تنبيهات:
الأول- قال القاشاني: الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا، والركون إلى الهوى، والانجذاب إلى الجهة السفلية، والتوجه إلى المطالب الجزئية. والإصلاح إنما يكون من لزوم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة، التي هي ظل الوحدة. فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما، على تقدير بغيهما. والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما، حتى ترجع. لكون الباغية مضادة للحق، دافعة له.
وقد روي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه بالنعال والأيدي، لا بالسيوف، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فحجز بينهم وأصلح. روي ذلك من طريق عديدة، مما يقوي أن القتال الذي نزلت فيه كان حقيقيًا.
ويروى عن الحسن أن الاقتتال بمعنى الخصومة، والقتال بمعنى الدفع مجازًا. قال- فيما رواه الطبريّ عنه: كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعوهم إلى الحكم، فيأبون أن يجيبوا، فأنزل الله: {وَإِن طَائِفَتَانِ} إلى قوله: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} الآية. يقول: ادفعوا إلى الحكم، فكان قتالهم الدفع. انتهى. ولا يخفى أن المادة قد تحمل على حقيقتها ومجازها فتتسع لهما. وقد قال اللغويون: ليس كل قتال قتلًا. وقد يفضي الخصام إلى القتل، فلا مانع أن يراد من الآية ما هو أعم، لتكون الفائدة أشمل- والله أعلم-.
الثاني- في (الإكليل): في الآية وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي، وقتال البغاة وهو شامل لأهل مكة كغيرهم، وأن من رجع منهم وأدبر لا يقاتل، لقوله: {حَتَّى تَفِيءَ}. انتهى.
وقد روى سعيد عن مروان قال: صرخ صارخ لعليّ يوم الجمل: لا يقتل مدبر، ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن.
وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم وجريحهم، وأنه لا يغنم لهم مال، ولا تسبى لهم ذرية، لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم. وعصمة الأموال تابعة لدينهم، ولذا يجب رد ذلك إليهم إن أخذ منهم. ولا يضمنوا ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال. ومن قتل من أهل البغي غسل، وكفن، وصُلي عيه، فإن قتل العادل كان شهيدًا، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به، كشهيد معركة الكفار. وأن أظهر قوم رأي الخوارج. مثل تكفير من ارتكب كبيرة، وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، ولم يجتمعوا لحرب، لم يتعرّض لهم. وإن جنوا جناية وأتوا حدًا، أقامه عليهم.
وإن اقتتلت طائفتان لعصبية، أو طلب رئاسة، فهما ظالمتان؛ لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلف على الأخرى.
هذه شذرة مما جاء في (الإقناع)، و(شرحه) وتفصيله ثمة.
الثالث- قال في (شرح الإقناع): في الآية فوائد: منها أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان، وأنه أوجب قتالهم، وأنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم. وإجازة كل من منع حقًّا عليه. والأحاديث بذلك مشهورة: منها ما روى عُبَاْدَة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله. متفق عليه. وأجمع الصحابة على قتالهم، فإن أبا بكر قاتل مانعي الزكاة، وعليًا قاتل أهل الجمل، وأهل صفّين. انتهى.
وتدل الآية أيضًا على وجوب معاونة من بغى عليه، لقوله: {فَقَاتِلُواْ}، وعلى وجوب تقديم النصح، لقوله: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا}، وعلى السعي في المصالحة، وذلك ظاهر.
الرابع- وجه الجمع في: {اقْتَتَلُواْ}، مع أنه قد يقال: مقتضى الظاهر: اقتتلتا، هو الحمل على المعنى دون اللفظ؛ لأن الطائفين في معنى القوم والناس. والنكتة في اعتبار المعنى أولًا. واللفظ ثانيًا عكس المشهور في الاستعمال، ما قيل إنهم أولًا في حال القتال مختلطون مجتمعون، فلذا جمع أولًا ضميرهم، وفي حال الإصلاح متميزون متفارقون، فلذا ثنى الضمير ثانيًا وسرّ قرْن الإصلاح الثاني بالعدل، دون الأول، لأن الثاني لوقوعه بعد المقاتلة مظنة للتحامل عليهم بالإساءة، أو لإيهام أنهم لما أحوجوهم للقتال استحقوا الحيف عليهم.
الخامس- أقسط الرباعي همزته للسلب. أي: أزيلوا الجور، واعدلوا. بخلاف قسط الثلاثي، فمعناه جار. قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15]، وهذا هو المشهور- خلافًا للزجاج- في جعلهما سواء- أفاده الكرخي-. وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [10].
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} استئناف مقرر لما من الأمر بالإصلاح، فإن من لوازم الأخوة أن يصطلحوا.
قال الشهاب: وتسمية المشاركة في الإيمان أُخوة تشبيه بليغ، أو استعارة شبه المشاركة فيه بالمشاركة في أصل التوالد؛ لأن كلًّا منهما أصل للبقاء، إذ التوالد منشأ الحياة، والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان.
{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} أي: إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله، وحكم رسوله.
قال القاشاني: بيّن تعالى أن الإيمان الذي أقل مرتبته التوحيد والعمل، يقتضي الأخوة الحقيقية بين المؤمنين، للمناسبة الأصلية، والقرابة الفطرية، التي تزيد على القرابة الصورية، والنسبة الولادية، بما لا يقاس، لإقضائه المحبة القلبية، لا المحبة النفسانية، المسببة عن التناسب في اللحمة. فلا أقل من الإصلاح الذي هو من لوازم العدالة، وأحد خصالها، إذ لو لم يعدوا عن الفطرة، ولم يتكدروا بغواشي النشأة، لم يتقاتلوا، ولم يتخالفوا. فوجب على أهل الصفاء، بمقتضى الرحمة، والرأفة، والشفقة اللازمة للأخوة الحقيقية، الإصلاح بينهما، وإعادتهما إلى الصفاء. انتهى.
تنبيه:
وضع الظاهر موضع المضمر مضافًا إلى المأمورين، للمبالغة في التقرير والتخصيص. وتخصيص الاثنين بالذكر دون الجمع، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان. فإذا لزمت المصالحة بين الأقل، كانت بين الأكثر ألزم، لأن الفساد في شقاق الجمع، أكثر منه في شقاق الاثنين- أفاده القاضي والزمخشري-.
وفي معنى الآية أحاديث كثيرة: كحديث «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه». وحديث «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». وحديث «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر». وحديث «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» وشبّك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم- وكلها في (الصحاح).
{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: خافوا مخالفة حكمه، والإهمال فيه، ليرحمكم فيفصح عن سالف آثامكم، ويثيبك رضوانه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [11].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} أي: لا يهزأ رجال من رجال، فيروا أنفسهم خيرًا من المسخور منهم: {عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} أي: الساخرات.
قال أبو السعود: فإن مناط الخيرية في الفريقين، ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال والأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالبًا. بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه، لما نيط به من الخيرية عند الله تعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى، والاستهانة بمن عظمه الله تعالى. ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغنيّ للفقير. وآخرون بما يعثر من أحد على زلة أو هفوة، فيسخر به من أجلها.
قال الطبري: والصواب أن يقال إن الله عمّ، بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض، جميع معاني السخرية. فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن، لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك. وقد عد الغزالي في (الإحياء) السخرية من آفات اللسان، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه فننقله هنا تتميمًا للفائدة، قال رحمه الله:
الآفة الحادية عشرة- السخرية والاستهزاء: وهذا محرم مهما كان مؤذيًا، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} الآية. ومعنى السخرية: الاستهانة، والتحقير، والتنبيه على العيوب، والنقائص، على وجه يُضحك منه. وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة، وفيه معنى الغيبة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: حاكيت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما أحب أني حاكيت إنسانًا، ولي كذا وكذا».
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]، إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك.
وهذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب الكبائر. وقال معاذ بن جبل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عير أخاه بذنب قد تاب منه، لم يمت حتى يعمله».
وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير، والضحك عليه، والاستهانة به، والاستصغار له. وعليه نبه قوله تعالى: {عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ}. أي: لا تستحقروه استصغارًا، فلعله خير منك. وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به. فأما من جعل نفسه مسخرة، وربما فرح من أن يسخر به، كانت السخرية في حقه من جملة المزح. ومنه ما يذم وما يمدح. وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به، لما فيه من التحقير والتهاون، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته، إذا كان قصيرًا أو ناقصًا، لعيب من العيوب، فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها. انتهى.
لطيفة:
قال أبو السعود: القوم مختص بالرجال، لأنهم القُوّام على النساء، والأحسن المهمات، وهو في الأصل إما جمع قائم كصوْم، وزوْر، في جميع صائم، وزائر. أو مصدر نعت به فشاع في الجمع. وأما تعميمه للفريقين في مثل قوم عاد وقوم فرعون، فإما للتغليب، أو لأنهن توابع. واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع. والتنكير إما للتعميم أو للقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض، لما أنها مما يجري بين بعض وبعض.
{وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} أي: لا يعيب بعضكم على بعض، ولا يطعن.
قال الشهاب: ضمير: {تَلْمِزُوا} للجمع بتقدير مضاف فيه. و: {أَنفُسَكُمْ} عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين، وهم المؤمنون، فجعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم، كما في قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، فأطلق الأنفس على الجنس استعارة. ففي اللفظ الكريم تجوز، وتقدير مضاف. والنهي على هذا مخصوص بالمؤمنين، وهو مغاير لما قبله، وإن كان مخصوصًا بالمؤمنين أيضًا بحسب المفهوم، لتغاير الطعن والسخرية، فلا يقال إن الأول مغن عنه، إذ السخرية ذكره بما يكره على وجه مضحك بحضرته، وهذا ذكره بما يكره مطلقًا. أو هو تعميم بعد التخصيص، كما يعطف العام على الخاص، لإفادة الشمول. وقيل: إنه من عطف العلة على المعلول، أو اللمز مخصوص بما كان على وجه الخفية، كالإشارة. أو هو من عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة. انتهى. وقيل: معنى الآية: لا تفعلوا ما تلمزون به، فإن من فعل ما استحق به اللمز، فقد لمز نفسه.
قال الشهاب: فـ: {أَنْفُسَكُمْ} على ظاهره، والتجوز في قوله: {تَلْمِزُوا}. فهو مجاز ذكر فيه المسبب، وأريد السبب. والمراد: لا ترتكبوا أمرًا تعابون به، وضعف بأنه بعيد من السياق، وغير مناسب لقوله: {وَلَا تَنَابَزُوا}، كما في (الكشف)، وكونه من التجوز في الإسناد، إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب، تكلف ظاهر، وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق، لا يدفع كونه مخالفًا للظاهر. وكذا كون المراد به لا تتسببوا في الطعن فيكم، بالطعن على غيركم، كما في الحديث «من الكبائر أن يشتم الرجل والديه»، إذ فُسر بأنه إذا شتم والدي غيره، شتم الغيرُ والديه أيضًا.